معرفة

لماذا يسمح الله عز وجل بوجود الشر في عالمنا؟ رد فلاسفة الإسلام على معضلة الشر

في نظام الوجود لا شيء يخلق عبثاً؛ فحتى الشر ليس إلا ظلاً للنور، وسبيلًا لكمال أعمق. فسبحان من أتقن كل شيء، وجعل من الألم طريقاً إلى الفهم، ومن النقص دليلاً على تمام الحكمة.

future صورة تعبيرية: عن معضلة الشر والألم في العالم

الشر، تلك المعضلة الأزلية التي تحدق في وجه الإنسانية منذ بدء الخليقة، صرخات الفقد وآلام المرض وبكاء اليتم، ثقوب مظلمة في لوح الوجود وأبيات غير موزونة في القصيدة الكونية. كيف يستقيم وجود الشر والألم في عالم خلقه إله رحمن رحيم؟ إن هذا لغز يحار فيه أولو الألباب.

يذكر الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم في كتابه «محاورات حول الدين الطبيعي» شبهة منسوبة للفيلسوف الإغريقي أبيقور: «هل يريد الإله أن يمنع وقوع الشر لكنه لا يستطيع؟ سيكون حينئذ ضعيفاً. هل يقدر على ذلك لكنه لا يريد؟ سيكون عندئذ شريراً. فإذا كان الإله يقدر على منع الشر بل ويريد منع وقوعه كذلك، فلماذا يوجد الشر إذن؟»1

استنتج أبيقور من هذه المعضلة أن هذا الإله مطلق الرحمة والعلم والقدرة غير موجود إذ لو كان موجوداً لمنع هذا الشر. تسمى هذه المعضلة بمعضلة الشر المنطقية Logical Problem of Evil والتي ترى استحالة وجود إله بهذه الصفات مع وجود الشر في العالم، فهذا جمع بين نقيضين.

تختلف هذه المعضلة عن معضلة الشر البرهانية أو الاحتمالية Evidential Problem of Evil والتي لا ترى استحالة وجود الله مع وجود الشر ولكنها تزعم «أن المرء يميل إلى الاستبعاد الاحتمالي لوجود إله قدير، عليم، رحيم، بسبب وجود الشر.»2

يرى معظم المفكرين أن معضلة الشر المنطقية قد سقطت لأنه توجد الكثير من السيناريوهات التي يمكن من خلالها الجمع بين وجود الشر ووجود إله مطلق الخير والعلم والقدرة دون حدوث تناقض، ولهذا يتعاطى معظم الفلاسفة مع مشكلة الشر البرهانية لا المنطقية.3 سنحاول خلال هذا المقال أن نوضح كيف حل فلاسفة الإسلام عقدة الشر وكيف دفعوا تلك الشبهة.

لقد بدأ اهتمام المتكلمين4 والفلاسفة المسلمين بمعضلة الشر إثر بلوغ الفتوحات الإسلامية بلاد فارس التي انتشرت فيها ديانة المانوية الثنوية والتي تقول بوجود مبدأين؛ مبدأ للخير ومبدأ للشر على العكس من الديانات التوحيدية التي تقول بإله واحد (اليهودية والمسيحية والإسلام).5 كان لتلك الديانات الثنوية إجابتها الخاصة لمعضلة الشر الأزلية فبدلاً من القول بخالق واحد خلق الخير والشر نقول بأن إلهاً خيراً رحيماً خلق ما هو خير وآخر شرير خلق الشر وبذلك ينحل الإشكال.

لكن البرهان العقلي والنص الديني يدل على وجود إله واحد لا شريك له، فكيف إذن يخلق الإله الواحد مطلق الرحمة والخير هذا العالم الملئ بالكوارث والمصائب والآلام؟ أدعوك أيها القارئ الكريم للدوران معي في فلك عدد من المواضيع الهامة والتي آمل بعد الانتهاء منها أن تجد فيها جواباً يثلج صدرك بخصوص هذه المعضلة التي تقض مضاجع الكثيرين.

1-معنى الكمال

إذا سرنا في الأرض ونظرنا إلى السماء لنتفكر في الموجودات المختلفة، سنجد عالمنا ملآناً بموجودات كثيرة مختلفة، لكلِِ منها صفات وخصائص، بها يكون الشئ شيئاً محدداً، لا شيئاً آخر. فالإنسان غير الثلج، غير النجم، غير نبات الصبار. لكل موجود طبيعته الخاصة به، والتي يطلق عليها الحكماء «الماهية»، والماهية هي الإجابة عن سؤال: ما هو الشئ؟ إذا سألتني عن ماهية الإنسان، سأجيبك بأنه حيوان ناطق، وإذا سألتني عن ماهية الثلج، سأخبرك بأنه ماء متجمد.

أطلق الحكماء على هذه الخصائص التي بها يكون الموجود شيئاً محدداً «الكمالات». فالإنسان مثلا، له كمالات عديدة بها يكون إنساناً، مثل الحيوانية (الحيوان هو جسم آلي طبيعي يدرك ما حوله ويتحرك بالإرادة)6، والناطقية (القدرة على فعل الأفعال بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي وإدراك الأمور الكلية)7. وللنبات كمالات بها يكون نباتاً، مثل القدرة على التغذي والتولد والنمو.8

ستلاحظ، أخي القارئ، أن الموجودات المختلفة في هذا الوجود لا تنشأ مكتملة بكل كمالاتها دفعة واحد؛ فمنها ما ينشأ بكماله الأقصى منذ لحظة تكونه، مثل الكائنات وحيدة الخلية مثلا، فهي تتكون كاملة منذ لحظة نشوئها، ولا تكتسب كمالات جديدة بعد ذلك. ومنها من يتكون، ثم يأخذ في الاستكمال واكتساب كمالات جديدة، مثل الإنسان الذي يبدأ كنطفة، ثم ينمو ليصير جنيناً، ثم يخرج طفلاً، ويكبر حتى يبلغ أشده. كذلك الشجرة، التي تبدأ كبذرة، ثم تأخذ في التكامل حتى تصير شجرة مثمرة.

2-ما بالقوة وما بالفعل

إن اكتساب أي شئ لكمالات جديدة يتضمن في حقيقة الأمر بزوغ صفات وخصائص جديدة لم تكن موجودة من قبل. فحين تتحول الشجرة إلى بذرة، تكون قد اكتسبت قدرات لم تكن فيها من قبل، مثل القدرة على البناء الضوئي والإثمار.

والنطفة البشرية لا سمع لها ولا بصر، ولكنها ستكتسب السمع والبصر حين تصبح إنساناً. فقبل أن يتكون إنسان من نطفة، أين كان؟ وقبل أن تنبت البذرة شجرتها، أين كانت تلك الشجرة؟ إذا تفكرت معي للحظة، أخي القارئ، ستجد بكل بساطة أن الإنسان كان كامناً في النطفة بشكل ما، أو موجوداً فيها بالقوة*. والشجرة موجودة في البذرة بالقوة، والنار موجودة في الفحم بالقوة.

إن كل الموجودات في عالمنا موجودة إما بالقوة وإما بالفعل. إن النجوم والمجرات قبل تكونها كانت موجود بالقوة في السديم الكوني. وقبل نشأة الحياة، فإنها كانت موجودة بالقوة في المادة غير الحية. وقبل ولادة الإنسان كان موجوداً بالقوة في نطفته. يقول العلامة محمد حسين الطباطبائي:

«النطفة، فإنها مادامت نطفة هي إنسان مثلا بالقوة، فإذا تبدلت إنساناً صارت إنساناً بالفعل، له آثار الإنسانية المطلوبة من الإنسان.»9

كل شئ في عالمنا المادي إما بالقوة وإما بالفعل، لهذا يقول الحكماء إن من أقسام الوجود القوة والفعل.10 نستخلص من هذا أن وصول موجود ما لكماله يتضمن خروج هذه الكمالات من القوة إلى الفعل.

3-تزاحم الموجودات

إذا تأملنا في استكمال الموجودات وخروج كمالاتها من القوة إلى الفعل، سنجد أن وصول شئ ما لكماله يعتمد على نقص في كمالات موجودات أخرى، ومنعها من الوصول لتلك الكمالات. فحتى يبقى الأسد على قيد الحياة — والحياة كمال له — سيأكل الغزالة وينهي حياتها، وفي هذا نقص للغزالة. أكلك للنباتات فيه كمالك ونقص لها. تكون العناصر في باطن النجوم يعتمد على نوى العناصر الموجودة داخل النجم، فالنجم يستخدم النوى الموجودة بالفعل ليكون عناصر جديدة؛ فهذا نقص في العناصر القديمة من أجل كمال عناصر جديدة.

يطلق الحكماء على هذا الأمر: التزاحم بين الموجودات. فكمال شئ ما يزاحم كمال شئ آخر. حين يصيب نوع من الفيروسات جسد إنسان، سيتسبب في مرضه. كمال ذلك الفيروس في قدرته على التكاثر داخل الخلية البشرية، ولكن ذلك الكمال يحتّم حدوث نقص في الكمال الجسدي للإنسان وإمراضه. هذا مثال على التزاحم.

4-عدمية الشرور

حين يتحدث شخص ما عن مفهوم الشر، فإنه دائماً يتحدث عن شئ غير مرغوب فيه، عن انحراف ما قد حدث، عن شئ لا ينبغي أن يوجد أصلاً، عن حالة أصلية بريئة قد انتهكت. أمّا عند الحديث عن الخير، فالحديث عن ما هو مأمول ومرغوب ومحبوب. إذا رجعنا لنسبح ثانيةً في فلك معضلة الشر، سنجد أن ما نطلق عليه خير هو في حقيقة الأمر الكمال الذي يسعى إليه موجود ما تبعاً لطبيعته أو ماهيته. يقول أحد أكابر حكماء الإسلام، والملقّب لدى البعض بالمعلم الثالث، محمد باقر الداماد والمعروف بالميرداماد:

«الخير هو ما يتشوقه كل شئ ويبتغيه ويتوخاه، ويتم به قسط كماله.»11

إذا وافقنا الحكماء على ما ذهبوا إليه، فما هو الشر؟ سيكون الشر حينئذ هو عدم وصول موجود ما لكماله، والنقص الذي اعتراه حين لم يتحقق كماله المناسب لماهيته. يقول الميرداماد إن الشر «إنما هو عدم ذات (كموت إنسان) أو عدم كمال ذات أو عدم كمال ما لذات».12

نفهم مما سبق أن الخير عند الفلاسفة المسلمين هو ما فيه كمال للموجود، والشر هو نقص ذلك الكمال. كمال العين في قدرتها على الإبصار، والعمى ليس إلا فقد العين لهذا الكمال. المرض ليس إلا غياب الصحة التي هي من كمالات الجسد. الجهل ليس إلا غياب العلم، والفقر ليس إلا غياب المال.

إن هذا التحليل للشر الذي تفتقت عنه عبقرية الفلاسفة يعرف في الفلسفة الإسلامية بعدمية الشر، وفي الفلسفة المدرسية ب The privation theory of evil أي الشر باعتباره حرمان الموجود من كماله. عدمية الشر لا تعني أنه غير موجود، فهذا لا يقول به فلاسفة الإسلام، لكن تعني أن الشر في حقيقته ليس إلا انعدام كمالٍ ما كان من المفترض أن يوجد، مثل الظل؛ فالظل موجود بالتأكيد، لكنه في حقيقته ليس إلا غياب الضوء.

لنأخذ مثالاً آخر على شر وقع على أحدهم ويبين كذلك التزاحم بين الموجودات. قتل عمرو زيداً بمسدسه!! قدرة عمرو على تحريك ذراعه والضغط على الزناد كمال له وليست بشر، وقدرة الرصاصة على اختراق جلد زيد كمال لها وليست بِشَر. وكون جلد زيد ليناً كمال للجلد ليقوم بوظيفته وليس بِشر. أما الشر فهو بطلان الحياة التي هي كمال لزيد باعتباره إنساناً، وهذا البطلان للحياة أو الموت ليس إلا غياب الحياة، فهو عدمي.13

نود أن ننبه إلى أن الشر ليس إلا حرمان الشئ من كماله المناسب لطبيعته، حتى وإن تضمن ذلك النقص وجود أشياء إضافية أُضيفت للشئ ليست من ماهيته، مثل إصبع سادسة في يد إنسان؛ فهذا تركيب زائد على اليد، ولكنه يحرِمها من كمالها وهيئتها المستحسنة.14 و لن يعتبر أحدهم وجود عين ثالثة في رأس طفل بشري زيادة في كماله؛ فهذا انحراف عن كماله الإنساني، لأن كمال الإنسان في امتلاكه عينين لا ثلاث.

إذا درسنا الأشياء التي توصف بالشرية، سنجد أنها لن تخرج عن شيئين: إما أنها أعدام كمالات، مثل العمى والصمم والجهل والفقر، أو أنها أشياء موجودة لكنها تمنع موجودات أخرى من الوصول لكمالها، مثل سم الأفعى؛ فسم الأفعى موجود وهو كمال لها ويحميها، لكن إذا لدغت الأفعى إنساناً فهذا بالنسبة له شر مستطير.

 5-الوجود خير

بعد هذا العرض لنظرية الحكماء ستفهم، أخي القارئ، أن الحكماء يساوون في فلسفتهم بين الكمال والخير. فإذا كان وصول الأشياء لكمالاتها يتم عبر خروجها من القوة للفعل، كذلك الخير. يقول الميرداماد: «فالخير كله من جهة الخروج من القوة إلى الفعل»15. بقي أن نضيف مفهوماً آخر لهذه المعادلة، وهو الوجود، فهم يساوون بينه وبين الكمال والخير. كيف؟!

إن وجود أي شئ في كوننا هذا يعني أنه كان موجوداً بالقوة قبل أن يخرج بالفعل. إذاً فمجرد وجود موجود ما في حد ذاته كمال وخير!! يطلق الحكماء على تقرر وتحقق (أي وجود) ذات ما في عالمنا الكمال الأول، أما الكمال الثانوي فهو استكمال هذه الذات عبر خروج ما يكملها من القوة للفعل.

على سبيل المثال، إن محض خلق بذور النباتات في عالمنا كمال أول وخير، والكمال الثانوي في اكتسابها كمالات حتى تصير شجرة مثمرة. بل إن خلق عالمنا هذا ووجوده خير وكمال في حد ذاته. وكلما خرجت موجودات أكثر من القوة إلى الفعل كان عالمنا أكثر خيرية وكمالاً. فبهذا المعنى يكون العالم الذي يحتوي على عنصري الهيدروجين والهيليوم فقط — ككوننا في بداياته — أقل خيرية وكمالاً من عالم يحتوي على عناصر أكثر، وكون يحتوي على كائنات حية إلى جانب الجمادات أكثر خيرية وكمالاً من كون لا يحتوي سوى على جمادات، وكون يحتوي على نباتات وحيوانات أكثر كمالاً وخيرية من كون يحتوي على نباتات فقط!16

وبهذا يمكن أن نصيغ معادلة الخير على النحو الآتي: الخير = الكمال = الوجود = الخروج من القوة إلى الفعل. وبهذا تكون معادلة الشر كالتالي: الشر = النقص = العدم = عدم الخروج من القوة إلى الفعل.

بهذا يكون الحكماء قد أبطلوا شبهة المانوية الثنوية، «فالشر لا ذات له»17 حتى يخلقه إله للشر، بل هو عدمي. وفي ذلك يقول الحكيم السبزواري في منظومته:

والشر أعدام فكم قد ضل من
يقول باليزدان (إله الخير) ثم الأهرمن (إله الشر)18

وبهذا نفهم، أيها القارئ، أن الشر لا يتعلق به الخلق والإيجاد من قبل الله سبحانه وتعالى لأنه ليس بذات أصلاً، بل هو عدمي، والله يخلق الذوات وكمالاتها لا الأعدام.

6- الشر عدمي وله أثر؟

ربما خطر في بالك، أيها القارئ الكريم، أنه إذا كان الشر عدمياً فكيف له أثر؟ شئ كان من المفترض أن يكون موجوداً، ولكنه ليس كذلك، فكيف يؤثر فيما حوله؟! ربما توضح لك الإجابة عن هذا السؤال عدمية الشر بصورة أكبر، وتطفئ نار حيرتك.

إذا ولد طفل بثقب في قلبه، سيؤثر هذا على وصول الأوكسجين لخلاياه، مما يمكن أن يكون سبباً في وفاته. إذا توفى الطفل، لا قدر الله، سيكون السبب في هذا هو قلبه الذي لم يصل لكماله التشريحي المفترض. فالذي قتل الطفل في هذه الحالة ليس عدماً، بل ذاتاً موجودة بالفعل — أي القلب — ولكنها لم تصل لكمالها المبتغى، أي انعدم فيها كمال ما.

وبهذا التوضيح سنفهم أن أثر الشر في عالمنا ليس إلا أثر الأشياء التي لم تصل لكمالها، أي أثر تابع لموجودات منقوصة. فحين لا يبلغ شئ ما كماله — كالقلب الذي به ثقب — سيسلك مسلكاً يختلف عن مسلكه إذا بلغ كماله.

7-هل الألم خير أم شر؟

لنعرج الآن على أقوى اعتراض يواجه نظرية عدمية الشرور. توجد بعض الظواهر التي تعتبر شراً، ولكن ليس بإمكاننا أن نفسرها بكونها عدمَ ذاتٍ أو عدمَ كمالٍ ما. أقوى وأشهر مثال على ذلك هو الألم؛ فهو شعور ذو وجود حقيقي واقعي، ولا يمكن أن نعتبره عدم كمال. يرى الفيلسوف المسلم الملا صدرا الشيرازي، مؤسس مدرسة الحكمة المتعالية في الفلسفة الإسلامية، إشكال الألم إشكالاً معضلاً، بل يرى أن عقدته لم تنحل إلى وقته.19 فكيف حل الفلاسفة عقدة هذا الإشكال؟ كتب السيد الداماد يقول:

«وكذلك الآلام ليست هي من الشرور، بما هي إدراكات لأمور.»20

إذا حللنا الألم تحليلاً عقلياً، سنجده أمراً وجودياً؛ لأنه إدراك لنقص أصاب المتألم، كإدراك المتألم لجرح في قدمه؛ فالجرح نقص في كماله الجِسماني، والألم هو إدراكه لهذا النقص. من هذا نفهم أن الألم كمال لأي كائن ذي وعيٍ وإحساس، وليس نقصاً. وأكبر دليل على هذا أن غير القادرين على الشعور بالألم يشخصهم الأطباء بمرضٍ يعرف بـ«Congenital Insensitivity to Pain» أو «عدم الإحساس الخلقي بالألم». إذن فعدم القدرة على الشعور بالألم نقص ومرض.

ولكن لماذا يعتبر جميع الناس الألم شراً؟ يجيب الحكيم السبزواري على ذلك بأن الألم أمر وجودي، «وإنما شريته من جهة عدم ملاءمته للنفس» بسبب ضعفها.21

8-الذاتيات والعوارض

ما الفرق، أخي القارئ، بين برودة قطعة من الثلج، وبين كونها حادةً أو ملساء؟ ستجيبني قائلاً إن الثلج يجب أن يكون بارداً حتى يكون ثلجاً، لكنه لا يجب أن يكون حاداً أو أملس حتى يكون ثلجاً. كذلك الماء، فحتى يكون الماء ماءً، عليه أن يكون سائلاً، لكنه لا يجب أن يكون بارداً أو ساخناً حتى يكون ماءً.

يطلق الفلاسفة على الصفات التي يجب أن تكون موجودة في الشئ حتى يكون ما هو عليه — كالبرودة للثلج والسيولة للماء — «الذاتيات»، ويسمون الصفات الأخرى التي ليس من الضروري أن تكون موجودة في الشئ حتى يكون هو هو — كحدة الثلج أو ملاسته وحرارة الماء — «بالعوارض».

لنضرب مثلا أخيراً: من ذاتيات الإنسان الحيوانية والناطقية؛ لأن أي إنسان يجب أن يتمتع بهما حتى يكون إنساناً، لكن ليس من الضروري على الإنسان أن يكون بطول معين أو بلون محدد، فهذه عوارض. إذا طبقنا هذا المثال على المادة، سنجد أن من ذاتياتها القوة والفعل؛ فإن لم يكن شئ ما في طباعه ما بالقوة لن يكون مادياً أصلاً.

9-الرد على معضلتي الشر

لنرجع الآن لشبهة أبيقور ومعضلة الشر الاحتمالية اللتين عرجنا عليهما في بداية المقال. إن القائلين بمعضلة الشر بنوعيها يفترضون مسبقاً إمكانية عدم حدوث الشر في عالمنا هذا مع بقائه على نفس طبيعته.

كما وضحنا، فالشر يكون بسبب عدم خروج ذات أو كمال ما من القوة إلى الفعل، هذا يعني أن الشر يعتمد على وجود شئ فيه ما بالقوة، والمادة من ذاتياتها، كما ذكرنا، أن فيها ما بالقوة، فإن لم يكن فيها ما بالقوة لم تكن مادة أصلا. مثل الثلج الذي من ذاتياته البرودة، فلا يمكن أن يوجد ثلج غير بارد.

ولهذا يرى الحكماء أن الموجودات المجردة غير المادية، مثل الملائكة، ليس فيها ما بالقوة أصلاً، فلا يلحقها شر كالفساد والموت. يقول الميرداماد: «فإذن، كل شئ وجوده على كماله الأقصى22 ليس فيه ما بالقوة، فلا يلحقه شر. وإنما الشر يلحق ما في طباعه ما بالقوة.»23

ولهذا فحين يفترض هؤلاء إمكانية منع وقوع الشر في عالمنا المادي، فهم يقولون بإمكانية وجود مادة ليس فيها ما بالقوة، وهذا تناقض، كأنك تقول بوجود مثلث ليس له ثلاث زوايا، أو ثلج غير بارد.

فحين يسألوننا: ألا يقدر الله على منع الشر من عالمنا؟ سنجيبهم: نعم، يقدر، ولكنه سيصبح حينئذ عالماً مجرداً غير مادي، ليس فيه ما بالقوة؛ كأنك تقول: هل يستطيع الله أن يجعل المثلث بأربع زوايا؟ سنجيبك: نعم، ولكنه سيصير مربعاً لا مثلثاً. يقول الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا:

«فإن قيل، فلم لم تمنع عنه الشرية أصلا، حتى كان يكون كله خيراً؟ فيقال حينئذ لم يكن هي هي.... فإذا صيرت بحيث لا يعرض عنها شر فلا يكون وجودها الوجود الذي لها، بل يكون وجود أشياء أخرى.»24

يذهب الشيخ الرئيس إلى ما قلناه، بأنه إذا منعت الشرية عن عالمنا لن يكون هو هو، بل سيكون شيئاً آخر غير هذا العالم المادي، وهو المخلوقات المجردة مثل الأرواح والملائكة. إن الحكم الذي صدر من هؤلاء ليس إلا حكماً وهماً — والحكم الوهمي هو الحكم بإمكانية وجود شئ ما في عالمنا، فقط لأن بإمكاننا تخيله — وهذا غير صحيح. لقد تخيل هؤلاء عالمنا المادي بدون شر، ولكن هذا مستحيل لطبيعة المادة نفسها.

إن القدرة على تخيل وجود شئ ما لا يعني بالضرورة أنه يمكن أن يوجد حقاً. فمجرد تخيلي لزرافة ذات رقبة طولها كيلومتراً لا يعني أبداً أن هذا ممكن تبعاً لقوانين علم الحيوان!

10- لماذا خلق الله عالمنا إذا كان يلزم منه وقوع الشر؟

أظن، أيها القارئ، أن عند قراءتك لردّنا على معضلتي الشر خطر في بالك أننا لم نفعل شيئاً سوى إزاحة الإشكال، فبدلاً من القول إن الله خلق الشر قلنا إن الله خلق الذوات التي يلزم من طبيعتها المادية أن يقع الشر، فكيف انحل الإشكال إذن؟!

إذا كان الله قد خلق عالمنا المادي هذا، فهو بلا شك كان يعلم أنه سيلزم عنه آلام وشرور ومعاصٍ كثيرة، وسيفسد الإنسان فيه ويسفك الدماء، لأن الله أعطاه حرية الإرادة، فلماذا خلق الله هذا العالم إذن؟!

إن هذا الاعتراض الذي ورد في بالك وبالي كذلك، يفترض أن الرحمة الإلهية مثل الرحمة البشرية، وهذا خطأ، وفيه أنسنة للإله. حين يرى أحدنا طفلاً يأكل من القمامة، سيشعر بالشفقة نحوه فيتصدق عليه من ماله. هذا يعكس الرحمة في قلبه، لكن الله عز وجل لا تتجلى رحمته بسبب الأحاسيس أو الشفقة — تعالى الله عن ذلك — بل تتجلى رحمته في خلق الأشياء من عدم وإيصالها لكمالها. كما ذكرنا آنفاً، فإن محض الوجود خير، وخلق هذا الوجود وإخراجه من ظلمة العدم إلى نور الوجود خير. ولهذا فإن خلق عالمنا المادي، بما فيه من شرور، أكمل وأخير من عدم خلقه.

11- أشرٌ أُريد بمن في الأرض؟

لنضرب مثالاً، فبالمثال يتضح المقال. مثل خلق عالمنا المادي بشروره كمثل بناء مطلق القدرة والعلم، لا تنفد خزائنه، أراد أن يبني مستشفاً ضخماً لعلاج آلاف المرضى، ولكنه تراجع عن ذلك، فسأله أحدهم: لماذا تراجعت عن هذا المشروع الذي سيأتي بالخير الكثير؟ فأجاب قائلاً: لأنه يلزم من بناء المستشفى موتُ بعضِ المرضى. بالتأكيد ستنتاب الآخر الدهشة ليقول له: أَمِن أجل بعض الشرور ستمنع الخير الكثير؟

لهذا يقول الحكماء إن الله لم يرد الشر بالذات، لكن أراده بالعرض؛ بمعنى أن الشر لازم من لوازم نظام الوجود الذي يحتوي على أشياء مادية تتزاحم فيما بينها لتصل لكمالها المنشود. لقد أراد الله خلق النار، فوجودها كمال لها، كما أن لها فوائد جمة، ولكن لكي تكون ناراً يجب أن تكون محرِقة، وهذه القدرة على الإحراق يمكن لها بالعرَض أن تحرق رداء رجلٍ شريف. فإذا سألنا: لماذا أراد الله خلق النار؟ لن نقول: لإحراق رداء رجل شريف! فهذا حدث عرضي وليس مقصوداً لذاته.

يقول المعلم الثالث: «إن الشر بالعرض بما هو شر بالعرض، ليس مقصوداً بالعناية الأولى (يقصد العناية الإلهية) ولا مرضياً به بالذات... بل إنما قصد العناية الأولى واختيار الإرادة الحقة إياه، من حيث خيريته العظيمة الواجب دخولها في نظام الكل، لا من حيث شريته الطفيفة الأقلية.»25

بعد اطلاعنا على نظرية الحكماء بخصوص عدمية الشر، يمكننا أن نقول إن المخلوقات التي سطرتها يد القدرة الإلهية في صفحات كتاب الوجود السنية، بمداد «كن فيكون» وقلم المشيئة الربانية، هي الذوات وكمالاتها، وحين لا تخرج الكمالات من القوة إلى الفعل بسبب تزاحم الموجودات بكمالاتها المختلفة، فهذا هو الشر. فسبحان الله الذي أتقن كل شئ، وطوبى لمن مستهم الشرور والآلام. فمهما عذبتنا الحياة، فهي قصيرة وإن طالت. ولنا في الآخرة الأبدية عزاء.

# معرفة # فلسفة الخير والشر

مشكلة الشر ووجود الله. د. سامي عامري ص 109
نفس المصدر ص 116
المتكلمون هم المشتغلون بعلم الكلام وهو العلم الذي يهدف إلى الدفاع عن العقيدة الإسلامية بالأدلة العقلية والنقلية.
العدل الإلهي، مرتضى مطهري. ص 84
ابن سينا الفيلسوف بعد تسعمئة سنة على وفاته. بولس مسعد ص40
نفس المصدر ص 42
نفس المصدر ص 40 القوة عند الفلاسفة يختلف معناها عن المعنى الشائع، فهي تعني عندهم أن شيئاً ما كامن في شئ آخر.
نهاية الحكمة الجزء الثاني. السيد محمد حسين الطباطبائي. ص 77
العقل والوجود. يوسف كرم. ص 130
القبسات لمحمد باقر الداماد. ص 428
مثل 11 ** الفلسفة المدرسية هي فلسفة القديس توما الأكويني وهي امتداد للفلسفة الأرسطية.
هذا المثال مستوحى من مثال ضربه العلامة الطباطبائي في نهاية الحكمة، الجزء الثاني. ص 282
شرح حكمة الإشراق سهروردي. قطب الدين الشيرازي. ص 497
مثل 11
هذا المثال مستوحى من كتاب The metaphysics of Good and Evil. David Oderberg P.59
مثل 11
مفاهيم القرآن. العلامة جعفر السبحاني. ص 224
الحكمة المتعالية من الأسفار العقلية الأربعة. صدر الدين محمد الشيرازي. الجزء الثاني من السفر الثالث.ص62-63
القبسات. محمد باقر الداماد. ص431
نهاية الحكمة. الجزء الثاني. ص 284
يقصد أنه خُلق في كماله الأخير دون الحاجة لخروج كمالاته من القوة إلى الفعل.
القبسات. محمد باقر الداماد. ص431
الإلهيات من كتاب الشفاء للشيخ الرئيس ابن سينا. ص458
القبسات. محمد باقر الداماد. ص 435
مات كما مات أبناء أبي الصمت — قصة قصيرة
نوبل في الفيزياء 2025: الحد الفاصل بين عالمنا والعالم الكمّي
من ذاكرة القراءة الأولى: مطالعات خارج السياق!

معرفة